تطوير تدريس فنون العمارة الإسلامية في الجامعات لمواكبة مستجدات المستقبل


تطوير تدريس فنون العمارة الإسلامية في الجامعات لمواكبة مستجدات المستقبل




أ) مراحل المنهج التعليمي المعماري


أ.1. القصد من وضع منهج موحد لتدريس فنون العمارة الإسلامية، توحيد الخطوات التعليمية في العالم الإسلامي للوصول إلى عمارة مستقبلية تتوفر فيها الأصالة الإسلامية، وتحافظ على وحدة الهوية المعمارية، في عالم يتطلب حواراً ثقافياً لإغناء القِيَم الإنسانية والحضارية عن طريق الإبداع والفن.

وإذا كانت العمارة المستقبلية هي الهدف، فإن دراسة العمارة الإسلامية الأصيلة هي الأساس والمنطلق، وبالمقابل إذا كانت العمارة الأصيلة ثابتة لا يمكن تحريف فهمها، فإن العمارة المستقبلية متحركة، وقابلة لمزيد من التنوع، بحسب تعددية المبدعين في العالم الإسلامي الواسع الأرجاء.


أ.2. وندخل إلى عالم العمارة الإسلامية الأصيلة من خلال علم التاريخ وعلم الآثار، إذ لا بد أن تدرس مراحل التاريخ الإسلامي وعصوره، ولابد أن نتعمق في الجانب الحضاري في هذا التاريخ. فالتاريخ يُعنى بعرض العهود والدول والعلاقات السياسية والاقتصادية فيها، أما تاريخ الحضارة فهو يعنى بتقديم مراحل التقدم الثقافي والعلمي والتقني، ومراحل الكشف عن الفكر والطبيعة والمادة. وبين أيدي الباحثين في هذا العلم، وثائق متراكمة، وآثار مادية قابعة في زوايا المتاحف، يستطيع من خلالها أن يوثق بحثه، وأن يطّلع مباشرة على التطوير الحضاري الذي حققه المسلمون عبر التاريخ. ودراسة التاريخ الحضاري تتطلب التوسع بالمقارنة بين الحضارات المختلفة التي سبقت الحضارة الإسلامية، أو التي عاصرت مراحلها التالية، وأن يوضح دور وتأثير كل حضارة على الأخرى. ولعل من أهم أبحاث المقارنة، دراسة الحضارات والفنون التي كانت زاهرة قبل الإسلام، وبيان مدى تأثيرها على الحضارة الإسلامية.


أ.3. تبقى الدراسة التاريخية والأثرية طريقاً للتعرف على الظواهر المعمارية الإسلامية عَبَْر التاريخ، وهي تسعى إلى استخلاص الأسس والقواعد الجمالية والمعمارية والإنشائية التي ترسم لنا طريق الفن المعماري المستقبلي. ولاشك أن هذه الأسس، وهذه القواعد، لا تكتفي بالبحث والتنقيب الميداني، بل لا بد من دراسة التراث الفكري الذي تناول من قريب أو بعيد البحث في الفكر الجمالي. ومما لاشك فيه، أيضاً، أن هذا الفكر سوف يرافقنا في كل مراحل الإبداع المستقبلي، لكي يصحح مسارنا في بناء عمارة وفن أكثر التصاقاً بذاتيتنا الثقافية وبخصائصنا الإبداعية.


أ.4. المرحلة التالية هي المرحلة التطبيقية التي يتحقق خلالها الفن الحديث والعمارة المعاصرة التي ننشدها في مجتمعاتنا الإسلامية، بعيداً عن التقليد والهجانة، قريباً من الأصول والنظريات التأسيسية.


أ.5. وأخيراً يعتمد المنهج التعليمي على قاعدتين أوليتين لابد من استكمالهما، القاعدة الأولى تتعلق بتأريخ العمارة الإسلامية والفنون، والقاعدة الثانية تتعلق بوضع علم الجمال الإسلامي والأسس النظرية للفنون الإسلامية. ولا بد من متابعة البحث التأريخي والتنظيري لتعزيز علمي التاريخ الفني والتنظير الفني، وما قدم حتى الآن لا يُعَدُّ كافياً، ولكننا مازلنا نتابع توضيح معالم الحضارة الإسلامية من خلال أبحاث موضوعية، ومازلنا نمارس حماية تراثنا ونجمع شتات هُويتنا الثقافية التي تأثرت كثيراً بفعل الغزو الثقافي والانحلال الحضاري.



ب) العمارة، علم وفن


ب.1. كليات العمارة في العالم الإسلامي مازالت حديثة، سبقتها كليات الهندسة وكانت فنون العمارة قسماًً منها، ثم استقلت العمارة عن الهندسة المدنية أو الإنشائية، وأصبحت أحياناً كلية مستقلة. وسواء كانت العمارة مستقلة أو تابعة للهندسة المدنية أو للفنون الجميلة، فإن برامج التدريس فيها لم تراعِ التركيز على العمارة الإسلامية.

ومن الواضح أن العمارة هي علم وفن، وكان ارتباط تدريسها بالهندسة المدنية يعني اعتبارها علماً قبل أن تعتبر فناً إبداعياً. والعكس، كان ارتباطها بالفنون الجميلة يعني اعتبارها فناً قبل أن تعتبر علماً، وتفرق بعض المدارس الغربية بين فن العمارة وهندسة العمارة، فيغلب على الأول الطابعَ الفني، ويغلب على الثاني الطابَع العلمي الرياضي.

وفي البلاد العربية الإسلامية بقيت الهندسة المعمارية فناً وعلماً بوقت واحد، تدرس فيها أكثر العلوم المحض والتطبيقية، إلى جانب التصميم المعماري، ولكن هذا الاختصاص لم يكن يؤهل المتخرج فيه لممارسة الهندسة الإنشائية مستقلاً عن المهندس المدني، في حين كان المهندس المدني قادراً على الاستقلال بتصميم أي منشأة، بعيداً عن المعماري الذي أصبح يحمل مع ذلك صفة المهندس المعماري.


ب.2. ولأن مواد التدريس في كلية العمارة علمية أولاً، كانت قواعدها وقوانينها عالمية مشتركة، وهي تطبق على جميع أنماط فنون العمارة، بما فيها العمارة الإسلامية، ولكن تدريس المواد الفنية مثل تاريخ العمارة وطراز العمارة وتاريخ الحضارات، لم يكن مركزاً على فنون العمارة الإسلامية. بل كانت هذه الفنون فصلاً من فصول الدراسة الجامعية، بل مازالت مغفلة عند دراسة الطراز المعماري، وعند دراسة علم جمال العمارة وتقنيات العمارة، وعلم الاجتماع، وعلم السيمولوجيا.


ب.3. وإذا كان هناك من ينادي بضرورة إنشاء قسم خاص بفنون العمارة الإسلامية في كليات العمارة، فإن المنهج الأجدر بالتطبيق هو التالي:

    1. أن تدرس كليات العمارة كل ما يتعلق بهذا الاختصاص تاريخاً وطرازاً، على أن يتم التركيز والتوسع في فنون العمارة الإسلامية في فصول خاصة.
    2 . أن يتاح الاختصاص بفنون العمارة الإسلامية في مرحلة الدراسات العليا.
    3 . أن تشمل دراسة فنون العمارة الإسلامية في المرحلة الجامعية الأولى أو في مرحلة التخصص العالي، المواد النظرية المتعلقة بفنون العمارة الإسلامية، وهي التالية:

         1. نظريات العمارة الإسلامية وخصائصها والطرز والمدارس الإسلامية في فن العمارة.
         2. تاريخ العمارة الإسلامية وأشهر المعماريين المسلمين.
         3. فلسفة العمارة الإسلامية وجماليتها بحسب الباحثين المعاصرين.
         4. الفكر الإسلامي والفلسفة الجمالية التي قدمها المفكرون المسلمون.
         5. علم الاجتماع الإسلامي.
         6. تاريخ الحضارة الإسلامية.
         7. علم الآثار الإسلامية ونتائج الحفريات الأثرية في العالم الإسلامي.

أما المواد العملية والتطبيقية، فهي:

1. الدراسة الميدانية للمناطق والمباني الإسلامية.
2. الممارسة الفعلية في عمليات الحفر الأثري والترميم والمسح.
3. دراسة المواد الإنشائية في العمارة الإسلامية ودورها الديناميكي والوقائي.
4. تقديم تصميمات معمارية، وزخرفية داخلية مستمدة من التراث المعماري الإسلامي، وملائمة لظروف التطور الحضاري والاجتماعي والتقني لمواكبة مستجدات المستقبل.
5. التدريب على قراءة العمارة الإسلامية التقليدية والحديثة، ونقدها ضمن حلقات البحث المشترك.


ب.4. إن إحداث أقسام اختصاصية لفنون العمارة الإسلامية، أو حتى التركيز على هذه الفنون ضمن نطاق الفنون المعمارية العالمية، يتطلب تأهيل أساتذة اختصاصيين أولاً وإغناء المكتبة الجامعية بالمراجع والمصنفات والأطالس المعمارية الإسلامية. ويجب الاعتراف أن التدريس المعماري الإسلامي يفتقر إلى اختصاصيين أكفاء في تاريخ العمارة الإسلامية، وفي الفلسفة الجمالية، وعلم الآثار، ولابد من تأمين الحوافز اللازمة لدفع المختصين من حملة إجازة الماجستير في فنون العمارة الإسلامية، للحصول على الدكتوراه في مجال اختصاصهم، لتأهيلهم للتدريس الجامعي.


ب.5. إن افتقار المكتبة الجامعية إلى مصادر ومراجع في مجال فنون العمارة الإسلامية، هو من الأمور والإشكالية التي لابد من تداركها. صحيح أن عدداً من المستشرقين قدم إنتاجاً مقبولاً(1)، في مجال تاريخ العمارة الإسلامية، وأن بعض هذه المؤلفات قد ترجم إلى العربية والفارسية، ولكن أكثر هذه المؤلفات لم تربط المنجزات المعمارية بالهُوية الإسلامية، نظراً لافتقار هؤلاء المستشرقين لمعرفة الفكر الإسلامي وأسس الجمالية الإسلامية. وكان على الباحثين العرب المسلمين أن يسدوا هذا النقص، ومازال الأمر في بدايته.



ج) علم الآثار والبحث عن التراث المعماري


ج.1. إن علم الآثار الذي اتجه نحو البحث والتنقيب عن التراث المعماري الإسلامي، كان رائداً في تعميق دراسة فن العمارة الإسلامية وفي تحليل خصائصه، سواء من خلال الآثار المدفونة تحت الأرض أو من الأطلال والمنشآت المماثلة التي ما زال بعضها مشغولاًً بوظائفه الأساسية، مثل الجوامع الكبرى في القدس ودمشق والقاهرة والقيروان وفاس، أو التي رممت وأصبحت مزاراً علمياً وسياحياًً يحفظ الذاكرة المعمارية، كجامع قرطبة ومسجد الشاه في أصفهان والقصر العباسي في بغداد.


ج.2. استفاد الباحثون من النقوش والكتابات المثبتة على المباني الإسلامية في تحديد تاريخ هذه المباني، وتعيين مَنْشَئها والسلطان الذي أمر ببنائها. كما استفادوا من التعرف على شروط المبنى المعماري من خلال الحجج الدقيقة والحبوس.


ج.3. لقد نشطت البعثات الأثرية في التنقيب عن التراث المعماري الإسلامي، وبعد أن كانت هذه البعثات أجنبية فقط أصبحت وطنية أو مشتركة. وقد أصبح حصاد عمليات التنقيب ضخماً سد نقصاً كبيراً في معرفتنا بتراثنا المعماري الإسلامي. ونشير بصورة خاصة إلى عمليات الكشف عن آثار قصر الزهراء في قرطبة التي تعيد إلى الذاكرة مشاهد رائعة معمارية، هي من أبرز المنشآت المعمارية الإسلامية في أوروبا والعالم الإسلامي، وكانت قبل الترميم مغيبة.


ج.4. ليس القصد من تسليط الأضواء على التراث المعماري الإسلامي زيادة مِساحات المتاحف، كما هو الأمر في متحف الدولة في برلين، الذي استوعب آثار معمارية إسلامية هامة، هي واجهة قصر المشتى الأُموي. ولكن الهدف هو إنعاش الذاكرة أما علم الآثار فهو يبحث ميدانياً في آثار العمارة الإسلامية فوق الأرض وتحتها، ولكي يحدد تاريخها وعصرها ونمط العمارة فيها والوظائف التي استوعبتها، ويخضع التنقيب الأثري المعماري لقواعد عالمية تتحكم في أسلوب التنقيب، من حيث دراسة الطبقات والسويات بالحفر ضمن مربعات مرقمة تجري فيها الدراسة الميدانية، ويتابع حلقاتها مربعاًً مربعاً. ويساعد العالم المنقب مهندس أثري وعالم لغوي، وعالم نباتي، إذ أن دراسة المواد العضوية مخبرياً عن طريق الفحم 14 تساعد في تحديد المدة الزمنية، ذلك أن الفحم 14، هو مادة عضوية مشعة، تفقد إشعاعاتها خلال مدة 5600 سنة ودراسة حجم خسارة هذه الإشعاعات يحدد عمر هذه المادة العضوية كالنبات والعظم، والطين والخشب، والتي كانت أساساً في العمارة القديمة.


ج.5. والدراسة الآثارية تعتمد على ثقافة فنية عالية، وعلى معرفة في تواريخ القطع المكتشفة سواء كانت زجاجية أو خزفية أو معدنية أو خشبية، ومعرفة تاريخ الخط العربي وغيره، وتطور أساليب الخط. ويكفي أن ينظر العالم إلى كسرة خزفية أو آجريه لكي يعرف الشكل الكامل لهذه الآنية أو تلك، وبالتالي لكي يحدد تاريخها وتبعيتها. وتبقى الرموز والإشارات أهم دلالة على هوية القطع الأثرية.

ويجب أن ننوه بجهود أقسام علم الآثار في الجامعات، فهي على حداثتها تخلق جيلاً من الأثريين المنقبين، قادر على سد الفراغ الكبير في عالم التنقيب الأثري. ولكن لابد أن نخصص في كليات الهندسة الإنشائية والمعمارية فصولاً لدراسة عمليات مساعدة للتنقيب الأثري، لتأهيل عدد من المهندسين على الانضمام إلى مجموعات التنقيب.


ج.6. إن مهمة علم الآثار هي تحقيق المعرفة التاريخية والعلمية الواقعية، وإفساح المجال أمام عمليات الحماية والصيانة والترميم لممارسة عملها حسب مقتضيات ونتائج التنقيب الأثري، ولابد من التقيد بحدود الواقع عند الترميم. وكل زيادة قد تشوه الحقيقة المعمارية وتشوه التاريخ. ولابد من استعمال المواد ذاتها أثناء الترميم، والتقيد الكامل بالشكل المعماري والطريقة الإنشائية التي كانت متبعة، في جوانبها التاريخية، وتوثيق المعرفة التراثية المعمارية، لتحقيق استمرارية الأصالة في العمارة الحديثة الموعودة، بعد انقطاع طويل عن الأصول الفنية التقليدية.



د) البحث عن الجمالية الإسلامية في العمارة والفن

د.1. لقد قامت جهود في البحث عن الجمالية الإسلامية في العمارة والفن قدمها (أوليغ غرابار)(1)، والكسندر بابا دوبولو(2)، ولكن هذه الدراسات كانت تعبر عن رؤية ذاتية تم فيها اختيار مذهب أو موقف إسلامي محدد، واعتمدت على مصادر إسلامية غير موثوقة لتبرير تحليل للفن والعمارة الإسلامية، مازال متحيزًا.


د.2. وتناول بعض المفكرين العرب قضايا الفكر الإسلامي، وأحسنوا في تسليط الضوء على الأسس الفكرية للإسلام، بعيداً عن قضايا الفقه والمذهب، ولكن قلة من الباحثين المسلمين والعرب، تناول مسائل الجمالية الإسلامية. وما نسعى إليه هو إنشاء فلسفة جمالية إسلامية، تأخذ مصادرها عن الفكر الإسلامي أولاً، وعن الفلسفة الإسلامية وعن المفكرين المسلمين. ولقد كان اهتمامنا قد ابتدأ بتقديم فلسفة أبي حيان التوحيدي الجمالية(3)، مأخوذة من كتبه التي بقيت بعد حرق أكثرها، وعرضناها بأسلوب علم الجمال وبمصطلحاته، فكان بين أيدي القراء مصدر نموذجي عن مفهوم الفن الإسلامي، من خلال فلسفة واحد من أعلام الفكر والفن في العالم العربي الإسلامي. ومازال المجال واسعاً لمتابعة دراسة مفهوم الفن الإسلامي عند الجاحظ وإخوان الصفا وابن خلدون والفارابي وغيرهم من الأعلام.


د.3. إن اختلاف المفهوم الجمالي الإسلامي عن غيره، وبخاصة عن المفهوم الجمالي الغربي الذي أرسى أسسه فلاسفة، بدءًا بأفلاطون وكانط وهيغل، إلى أن ظهر علماً مستقلاً عند (بومجارتن)، يجعلنا نؤكد على ضرورة دراسة علم الجمال الإسلامي مستقلاً أو مقارناً مع علم الجمال الغربي، وهذا يعني أن دراسة فنون العمارة الإسلامية، لا تلغي دراسة فنون العمارة في العالم، فنحن لا نستطيع توضيح معالم فنوننا إلا بالمقارنة مع فنون الآخرين. كالفن الهندي والمكسيكي والفن الكلاسي والفن المسيحي على اختلاف مدارسه وفنون عصر النهضة في أوروبا.


د.4. كذلك لابد من دراسة الفن الإسلامي بدءًا من جذوره الكامنة في فنون ما قبل الإسلام، كالفن المصري والفن الفارسي والفن الرافدي والفن اليمني والفن الفينيقي.

لقد تمادى بعض المؤرخين في فصل الحضارة الإسلامية الأولى عن الحضارات العربية السابقة للإسلام، كالحضارة الرافدية والعمورية والفينيقية واليمنية والنبطية. والحق أن هذه الحضارات هي أصول الحضارات التي ظهرت في المِنْطَقة التي دانت بالإسلام، في العراق والشام واليمن والجزيرة، كالحضارة الفارسية والبيزنطية التي كانت جسر انتقال من الحضارات القديمة إلى الحضارة الإسلامية.

لقد أخذت الحضارة الفارسية، عمارة وفناً، نسغها عن الحضارة الرافدية، بل كانت امتداداً لها، وعندما تلاحمت هذه الحضارة مع عرب البادية الذين شكلوا حضارة الحضر وحضارة الحِيرة أيام العرب المناذرة، ومع عرب تدمر أيام أسرة خيران وعلى رأسها زنوبيا، كانت بداية ظهور السِّمات العربية في الفن والعمارة على الرغم من السيطرة السياسية والثقافية الإغريقية، ثم الرومانية، وما زالت آثار الحضر وتدمر ووصف قصري الخورنق والسدير في الحيرة، تشهد على سِماتٍ محلية تتميزعن الطابع الكلاسي.


د.5. وفي جميع العصور الساسانية والكلاسية والبيزنطية، فإن صانع الفن والعمارة، كان ذلك المعلم المعمار المواطن، والذي ترك هُويته مرغماً لحساب السلطة الغريبة الحاكمة، ويتحدث المؤرخون عن دور المعماريين السوريين في بناء أوابد ضخمة ما زال أشهرها قائماً في روما ذاتها، مثل حمامات (كاراكالا) و(عمود تراجان) و(قوس نصر سبتيم سيفير)، و(جسر دبروجا) على نهر الدانوب. ويزهو اسم المعمار الدمشقي (أبو للدور) كواحد من عباقرة العمارة في العالم الروماني.


د.6. ويتحدث المؤرخون، أيضاً، عن المعماريين السوريين الذين أنجزوا كنيسة (أيا صوفيا) حسب المفاهيم المعمارية السورية التي انتشرت في العصر البيزنطي وورثها العثمانيون المسلمون، وكان المعمار سنان في تركيا هو >دافنشي المسلمين< ينطوي على أعظم عبقرية معمارية تجسدت في أكثر من مائة آبدة إسلامية، لعل أبرزها جامع السليمية في (أدرنة) بتركيا. وهكذا يستمد العرب المسلمون من تراثهم السابق للإسلام عناصر معمارية هامة أغنت العمارة الإسلامية وربطتها بجذورها القديمة. ولعل ظهور المئذنة المربعة والملوية التي اتخذت أصولها من أبراج الزيقورات الرافدية، مثالاً ودليلاً على هذا الارتباط البعيد المدى بالجذور الأصيلة.



هـ) النظريات المعمارية الإسلامية


هـ.1. تبقى دراسة نظريات العمارة الإسلامية من أهم المواد الجامعية والاختصاصية، فنحن لا نستطيع استيعاب خصائص هذه العمارة، إلا بعد دراسة النظريات التي قامت عليها عناصر هذه العمارة، وإلى الرموز العقائدية التي دلت عليها. فإلى جانب علم الرياضيات المحض الذي يقوم بتحليل بنِيه العناصر المعمارية، من قوس وقبة وأعمدة، إلى المحراب والمئذنة والصيوان، ثمة رياضيات رمزية سيماتية تتصل مباشرة بالعقيدة الإسلامية، تجعلنا نفهم أسباب قيام العناصر المعمارية الإسلامية، مما يساعدنا في تحديد هُوية العمارة والفن الإسلامي، وفي توضيح المعاني السامية التي استمدها المعمار من مبادئ الدين الإسلامي.


هـ.2. يهدف تعليم تاريخ العمارة الإسلامية وفلسفتها ونظرياتها إلى بناء المعمار الإسلامي المستقبلي؛ الذي أنهكته دراسة العمارة والفنون في العالم، بعيداً عن عمارته وفنونه التي كانت من أروع إفرازات حضارته. والقصد التعليمي الأول هو أن يصبح الطالب المسلم العربي أو غير العربي قادرًا على قراءة العمارة الإسلامية، وعلى تحليلها علمياً وجمالياً، وهي مرحلة بناء التذوق والفهم. أما مرحلة الإبداع المنتمي، فإن مشوارها طويل يتجاوز حدود الدراسة، وليس من السهل بناء معمار إسلامي يجهل أولايؤمن بانتمائه الإسلامي، أو انتمائه إلى الفكر الإسلامي وإلى التراث الإسلامي، ولا يأتي الانتماء إلا عن طريق المعرفة، ولذلك كانت الدراسة الجامعية وسيلة لتقوية الانتماء وللتحضير لمرحلة الإبداع الملتزم.


هـ.3. ويبقى خَلْق عمارة مستقبلية أصيلة، الطريق الصحيح والمباشر لترسيخ السِّمة الحضارية للدين الإسلامي، ولابد من إنقاذ الحضارة الإسلامية من براثن الجهل والجمود الفكري، بمباشرة نهضة ثقافية، تبدأ باسترداد هُوية المدينة الإسلامية. وتبقى العمارة الإسلامية وعاء الحضارة وعنوانها، وهي سِمة التقدم الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع الإسلامي السَّوي.



و) التصميم المعماري الإسلامي


و.1. تُعَدُّ مادة التصميم المعماري الإسلامي المجال التجريبي والتطبيقي الأكثر أهمية، ولا بد من الإكثار من التمارين والوظائف الأسبوعية المتعلقة بالتصميم، على أن يرافق تحكيم هذه التصاميم شرح تفصيلي يساعد الطالب على تصحيح أخطائه، وتقويم ارتباطه بالأسس الجمالية والنظرية الخاصة بفنون العمارة الإسلامية. وتتضمن دراسة التصاميم نقاطاً أساسية تبقى العمود الفِقَري لبناء تصميم صحيح، وأهم هذه النقاط هي :

1. التقيد بالفكر الجمالي الإسلامي، المستمد من الشريعة، ومن أفكار الفلاسفة والباحثين القدماء والمحدثين، والتقيد بالآية الكريمة: {أفَمَنْ أسَّس بنيانهُ على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ ٍفانهار بهِ في نارِ جهنَّم واللهُ لا يهدي القومَ الظالمين}.(سورة التوبة، الآية: 109).

2. التقيد بالوظيفة سواء كانت هذه الوظيفة دينية أو مدنية، ولقد عرفت العمارة الإسلامية بتوافقها وتطابقها مع الوظيفة والمنفعة المبتغاة من المنشأة.

3. تحقيق الأمن والسلامة والاستقرار، وهي شروط عامة، ولكن مراعاة العادات والتقاليد الإسلامية والبيئة المُناخية والاجتماعية؛ تبقى من الشروط الخاصة بالعمارة الإسلامية.

4. دراسة اقتصادية التصميم كي تتوافق مع الوضع الاقتصادي ومع ميزانية المشروع.

5. مراعاة النواحي الصحية، والاستفادة من أنظمة التهوية التقليدية “البادغير” أي الملاقِف الهوائية الرطبة. وتأمين العزل الحراري، وتوفير الطاقة الكهربائية، والإفادة من الطاقة الشمسية، ومن المواد العازلة التقليدية، وتحاشي الأسمنت إلا في الحالات الضرورية بسبب ناقليته للحرارة والبرودة الخارجية على عكس الطين والخشب.

6. تطبيق التقنيات الحديثة بما لا يؤثر على الطابع الأصيل للعمارة، وبما لا يزيد من الكلفة، ويعقّد عمليات الصيانة والتشغيل.

7. تحقيق التناسق مع البيئة العمرانية، من أبنية وفراغات وحدائق وشوارع عادية أو جسرية.

8. دراسة العمارة الداخلية ضمن حدود المفهوم الجمالي التقليدي، مع إفساح المجال واسعاً للإبداع والتجديد، واستعمال المواد المستحدثة والمساعدة لتحقيق العمارة الداخلية الحديثة، بما يتناسب مع الحياة العصرية، ضمن حدود التهوية التراثية.

9. العودة ما أمكن إلى مبدإ الجَوَّانية في العمارة الإسلامية، والاهتمام بالفِناء الداخلي والإيوان والطزرات والعتبات المساعدة في حماية المُناخ الداخلي.



ز) الكشف عن المواهب المُبدعة


ز.1. ليس من شك أن جميع المواد الدراسية النظرية والعملية، تخدم الطالب في مباشرة تصميماته المعمارية حسب المعطيات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وإذا كان على الجامعة أن تهيئ الطالب لممارسة تصميماته وفق الشروط الأكاديمية أولاً، فإن قضية الكشف عن المواهب المبدعة تبقى الوسيلة الأجدى لفتح آفاق جديدة لعمارة المستقبل ، فعمارة المستقبل ليست نسخاً عن عمارة الماضي أو تقليداً لها، وليس التراث نموذجاً للتقليد والتكرار، بل هو حافظة الهوية، التي إذا ما تمكنا من الانتماء إليها بعد الكشف عن أسرارها، كانت الحرية الإبداعية هي الطريق الصحيح لإحياء التراث المعماري، ولإغنائه بإبداعات فردية لا حصر لها. لقد انتهى عهد المذاهب المعمارية، وأصبحت الشخصانية سِمة الفن الحديث والعمارة الحديثة، لذلك لابد من تهيئة معمار المستقبل لمباشرة أسلوب معماري متغير بطرائقه وتصميماته، ولكنه ثابت بانتمائه وهُويته. إن التعددية الإبداعية هي الهدف البعيد الذي يجب أن ترسم له مناهج التعليم المعماري الجامعي، على أن لا تنقطع هذه الإبداعية عن جذورها وأصولها، وإلا فإن مصيرها العدمي سيكون حتمياً، وهذا ما تم في عمارة (الحداثة) التي انقطعت عن الجذور وعن الفكر المعماري، وضاعت في متاهات التشرد الإبداعي، وهاهي تبحث اليوم عبثاً عن طريق العودة إلى الجذور.



ح) المعاجم ومصطلحات العمارة الإسلامية


ح.1. الفن والعمارة لغة الإشارة والرمز، لغة نقرأ من خلالها التاريخ والحضارة والهُوية القومية، ونحدد من خلالها المستوى الإبداعي الأصيل، ولكي تكون هذه اللغة مقروءة من أبنائها أولاً، كان لابد من توحيد مصطلحاتها. وفي نطاق اللغة العربية، وهي لغة الحضارة الإسلامية والدين الإسلامي، مازلنا نتخبط باستعمال مصطلحات متضاربة لا تساعدنا في توحيد قراءة الفن المعماري، وفي بناء التصميم المعماري.


ح.2 . لقد تكونت المصطلحات المعمارية التي أفرزها معلمو العمارة في كل قطر إسلامي، دون أن يكون بمقدورنا اختيار المصطلح المشترك الذي يساعد في تكوين خطاب واضح مشترك بين المعماريين وفي حلقات التدريس. ولقد قامت جهود بعض المستشرقين لجمع بعض هذه المصطلحات وتنسيقها ومقارنتها وتوضيح مدلولها(1)، ثم قامت جهود أخرى لترجمة المصطلح المعماري الفرنسي والإنكليزي إلى اللغة العربية(2).


ح.3. كان القصد توحيد المصطلح الجامعي والتعليمي. ولكن الهُوة ما زالت قائمة بين المصطلحات المحلية الدارجة ذاتها، فلم يُوَحَّد الخطاب بين المعمار الشامي والمعمار المغربي، ومع أن القاسم المشترك بين هذه المصطلحات هو المصطلح العربي الفصيح، فإن دراسة مقارنة وموحدة لهذه المصطلحات لم تتحقق حتى الآن، وكان لابد لمراكز البحث الجامعي أو لمجامع اللغة أن تقوم بهذا العمل المؤسس.



ط) المهنة والفنون المعمارية الإسلامية


ط.1. إن الهدف من دراسة فنون العمارة الإسلامية، والتخصص فيها، ممارسة مهنة التصميم والتنفيذ وفق الأسس والنظريات والتقنيات التي تشكل خصائص وتقاليد العمارة الإسلامية. ويجب الاعتراف أن الاختصاص المعماري حديث في نطاق الدراسات الجامعية الإسلامية، ناهيك عن الاختصاص بالعمارة الإسلامية الذي مازال مفقوداً في نطاق التعليم المعماري الجامعي، وحتى عهد قريب كان الاختصاص بيد المعلم المعمار، ولعله كان أمياً لا يستخدم في عمارته إلا الوسائل البدائية، والمواد الإنشائية المتوفرة. والحق إن هذا المعمار قد أنجز روائع المنشآت التي تشهد على عبقريته ومهارته التي لم يستطع المعمار المثقف مجاراته بها حتى الآن. وفي معاهد الفنون التطبيقية والتدريبية، مازال التدريس يعتمد على أولئك المعلمين، ولقد وصل المعلم المعمار قمة نجاحه في العصر الحديث عندما قام بإنشاء الأوابد الضخمة، مثل ضريح الملك محمد الخامس في الرباط وجامع الملك الحسن الثاني في الدار البيضاء.

ومازال الترميم الأثرى يعتمد على أولئك المعلمين الذين يتناقصون مع الأسف دون أن تقوم السلطات بتشجيع أجيال جديدة على متابعة أعمالهم.

على أن معلمي المعمار في جميع البلاد الإسلامية من أصفهان إلى بغداد ودمشق وإلى القاهرة وتونس وفاس وقرطبة، أيضاً، هم الذين يتولَّون بنجاح كامل عمليات ترميم المباني الإسلامية.


ط.2. إن عيب التدريب الجامعي عامة، وتدريس فنون العمارة الإسلامية بخاصة، هو غياب الجانب التطبيقي والتدريبي والاكتفاء بالجانب النظري، ولذلك فإن الاختصاص يبقى ناقصاً يحتاج إلى دربة طويلة، ومن الصعب تأهيل معماري إسلامي عن طريق الدراسة النظرية المجردة.


ط.3. لقد كان تأهيل المعماريين يتم داخل الورشات. وكان المعماري ينتقل في تجاربه وتدريبه من أبسط المراحل، مثل تحضير الطين وتقطيع الحجر إلى التصميم والبناء، تحت إشراف معلمين مهرة يسددون خطواته ويدربونه على تنفيذ جميع المراحل المعمارية والإنشائية. واستمرت صناعة البناء وفنون الزخرفة والعمارة زاهرة بفضل مِهاراتهم ومكتسباتهم العملية. ومن الملاحظ أن المعماريين الاختصاصيين الذين سبق لهم ممارسة مهنة العمارة، أو جزءاً ما من مهن الإنشاء هم أكثر نجاحاً في تصميم وتنفيذ مشاريعهم منسجمة مع الطابع المعماري التقليدي، ومتقيدة بالخصائص المعمارية الإسلامية.


ط.4. ليست مهمة التدريس الجامعي مجرد تأهيل اختصاصيين لممارسة التصميم المعماري الإسلامي، بل إنها لتأهيل الناس جميعاً لفهم أسرار العمارة الإسلامية وتذوقها، ومن ثم حماية تراثها والعمل على متابعة تقاليدها في عمارتهم الحديثة، مما يحقق الهدف لتأمين سوق استهلاكية لفعاليات المعماريين.


ط.5. ومن المؤسف أن انتقال سكان المدينة الإسلامية من المدينة القديمة إلى المدينة الحديثة، منذ الخمسينات من هذا القرن، أورث إهمالاً للمدينة القديمة، بل ازدراء أحياناً، وبالتالي عزوفاً عن متابعة العمارة الإسلامية في منشآتهم الحديثة. لذلك كان من أهم أهداف التدريس توعية المواطن بميزات العمارة الإسلامية لتغيير مواقفه منها، وليصبح أكثر اعتزازًا بتراثه وأكثر إقبالاً على إنشاء عمارة حديثة أصيلة. ومما لاشك فيه أن إعداد المعمار الإسلامي المنتج يجب أن يرافق إعداد المستفيد القانع والمقبل على هذه العمارة بقناعة ورغبة، ولكن هذا الاقتناع لايتم بمجرد إثارة العواطف القومية والتراثية، بل لابد من تعميم الثقافة المعمارية الإسلامية في المدارس، وعرض روائعها وخصائصها وميزاتها بوسائط الإعلام المختلفة، وتنظيم اللقاءات والمؤتمرات والمعارض التي تعّرف بأهمية هذه العمارة على أوسع نطاق شعبي ممكن.



(1) نذكر من هذا كتاباً صدر عن مهرجان العالم الإسلامي الذي نظم في لندن في السبعينيات من القرن 20، لمؤلفه بيوركهارت، Burckhartdt: Art of Islam
(1) O. Grabar: the formation of Islamic Art Yale.
(2) A. Papadopoulo : LصIslam et lصart musulman- Mezenod.
(3) جمعنا في كتابنا ـ الفكر الجمالي عند التوحيدي، خلاصة مما أورده في كتبه مايتعلق بالجمالية الإسلامية، الكتاب طبع المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997.
انظر: بيروت ـ ليون
(1) O. Aurenche : Dictonnaire de lصarchitecture du proche Orient,1976.
(2) انظر المعاجم التي قدمناها، وهي:
ـ معجم المصطلحات ثلاثي اللغات ـ طبع مجمع اللغة العربية بدمشق، 1972.
ـ معجم العمارة والفنون، انكليزي/ عربي، طبع مكتبة لبنان، بيروت 1995.
ـ وانظر يحي الشهابي: معجم المصطلحات الأثرية، طبع مجمع اللغة العربية بدمشق، 1967.

Enregistrer un commentaire

Plus récente Plus ancienne