التأكيد على المواصفات الحضارية الدينية والقيم السامية في الفنون الإسلامية
أ) الدين والحضارة
أ.1. ولقد قام الإسلام على الإيمان بالله رب العالمين، وعلى وحدانيته، فهو واحد لا شريك له، {لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفواً أحد}،(سورة الإخلاص، الآيتان:4-3). وهو إله لا شبيه له ولا مثال {ليس كمثله شئ}، (سورة الشورى، الآية:11). ثم هو أزلي خالد {هو الأول والآخِر}، (سورة الحديد، الآية:3)، وهو {عليمٌ قدير}،(سورة النحل، الآية: 70) {وإِنَّه يعلم الجهرَ وما يخفى}.(سورة الأعلى، الآية:7) والله هو فوق جميع الكائنات، وفوق الأشكال، وفوق كل قوة، وكل حجم وكل حد، {وله المثل الأعلى} (سورة الروم، الآية: 30)، وهوخالق الكون كله.
أ.2. لقد صور القرآن معاني اللَّه سبحانه وتعالى: في آية بسورة النور (3)، {اللهُ نورُ السمواتِ والأرضِ}، فهو النور الأسنى، الذي تكونت منه السماء والأرض، {مَثَلُ نورهِ كمشكاةٍ فيها مصباح المصباحُ في زجاجةٍ والزجاجة كأنها كوكب درّي}، وهي صورة أدبية لتوضح المعنى الإلهي، {يوقَدُ من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربية}، أي أن وقود هذا النور يأتي من لازمانَ ولامكانَ محددين، {يكاد زيتُها يضيئ ولو لم تَمْسَسْهُ نار}، هو نور وليس من نار {نورٌ على نورٍ}، أي أنه نور مطلق، {يهدي اللهُ لنورهِ مَنْ يشاءُ}، والله يهدي الصالحين للكشف عن سره. ويتمثل الإيمان بالله، في السعي إلى اكتشاف سر ملكوت اللَّه، أي سر الوجود الأَزلي، ولقد زود اللَّه الإنسان بالعلم والعقل، لكي يكتشف سر الوجود، وهو هدف حضاري، فالحضارة اكتشاف مستمر لأسرار الكون، وعلاقة الإنسان بالكون علاقة معرفة، أما علاقة الإنسان يربه فهي علاقة ولاء وعبادة، {إنما يخشى اللَّهَ من عبادهِ العلماءُ}، ( سورة فاطر، الآية: 28)، ولقد كرم اللَّه أولي العلم وحضَّهم على الكشف {شهد اللهُ أنه لا إله إلا هو والملائكةُ وأولو العلم قائماً بالقِسْط}، (سورة آل عمران، الآية: 18).
أ.3. إن المعنى المثالي للَّه سبحانه يجعله موئلاً للمؤمنين يسعون إلى معرفته من خلال مخلوقاته، ومن خلال تجلياته في الوجود والكون، ويتحدد إيمان المؤمن بقدر التجائه إلى الله للبحث في سر الوجود {وما عندَ اللهِ خيرٌ وأبقى}. (سورة القصص،الآية :60) ، هكذا يتجلى الدين الإسلامي عقيدة توحيدية حضارية لازمة ولا غفران لمن لا يؤمن بها، {إن الله لا يغفر أن ُيشرك به ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاء}، (سورة النساء، الآية : 48).
ب) مسألة منع التشبيه في الفن
ب.1. ثمة مسائل فكرية تناولها بعض الفقهاء دونما تعمق أو تفنيد كاف، منها مسألة منع التشبيه في التصوير، هذه المسألة التي أعيد طرحها منذ الثلاثينيات في هذا القرن على لسان المستشرقين، أولاً: ثم تناولها الفقهاء معتمدين على مواقف بعض المحدثين من أمثال النووي، الذين أكدوا على إطلاق المنع في الحديث الشريف >إن أشد الناس عذاباً، يوم القيامة المصورون الذين يضاهون بخلق الله<، وثمة أحاديث أخرى لا تخرج عن هذه الصورة، دون إيضاح أسباب المنع، عدا ما كان قد عرضه النحاة من أمثال أبي علي الفارسي، عندما قالوا استناداً إلى قواعد النحو، إن أسباب المنع هو عدم تصوير اللَّه تعالى صورة الآحاد أو الأجساد، لكي لا نقع في شِرْكِ الصنمية والوثنية، وهو كفر لا جدل فيه، أو أن سبب المنع هو الحيلولة دون ادعاء الرسام أنه قادر على تصوير المخلوقات متجاوزاً حدود مقدرة الواحد الخالق المصور سبحانه. وفي جميع كتب أبي حيان التوحيدي وبخاصة (الإشارات الإلهية)، و(الإمتاع والمؤانسة)، و(اُلمقابسات)؛ لا نرى في حديثه عن الصورة بجميع أشكالها، الإلهية والطبيعية والبشرية، أي تأسيس على المنع، أو على آراء الائمة والفقهاء، بل هو يباشر موقفه باتجاه العقيدة التوحيدية، وما تمليه عليه من أحكام إلهية تتلخص في الآية الكريمة {ليس كمثله شئ}.
ب.2. ويبني أبوحيان حديثه عن الصورة الإلهية، على المبدإ التوحيدي الذي يميز الإسلام(1)، فهو يصف الخالق، >إن الكل باد منه وقائم به وموجود له وصائر إليه<، ولهذا فإنه ليس من الممكن تصوير اللَّه صورة الأجساد، ولا يمكن تشبيهه بأي صورة كانت، لأنه المطلق، والمطلق لايمكن أن يصبح نسبياً، وهي آفة التصوير الغربي الذي صور الخالق على سقف كنيسة السكستين شيخاً يخلق الكون، ويخلق الإنسان، ولم تكن صورة هذا الشيخ غريبة عن صورة إله الإغريق (زفس) رب الأرباب في مجمع الآلهة الوثنية.
ولذلك؛ فإن التوحيدي عندما قال: >إن جميع الأسماء الحسنى تضيق على الله وجميع الرسوم الدلالية عاجزة عن تصوير الله<، لأن الانسان يبقى عاجزاً عن إدراك سِماتِ الرب، ولكنه بعقله وحدسه قادر على الإيمان بقوته الخالقة من خلال مخلوقاته وأسرارها، ومن خلال الكون وخفاياه.
والله كما في القرآن الكريم: {هو الأولُ والآخِرُ والظاهرُ والباطنُ}،(سورة الحديد، الآية : 3 ). ولهذا يقول التوحيدي، إن اللَّه تعالى لما كان محجباً عن الأبصار، ظهرت آثاره في صفحات العالم وأجزائه وحواشيه وأثنائه.
ب.3. ويتفق أبو حيان مع بعض مفسري الحديث الشريف، من أن المنع قاصر على تصوير اللَّه، فيقول تأسيساً على معنى الوحدانية والإيمان بها، إن تصوير اللَّه يتم بعيداً عن المكان والكيف قريباًً من الدهر والزمان. أما من أشار إلى الذات فقط بعقله البريء السليم، من غير تورية باسم ولا تحلية برسم مخلصاً مقدساً، فقد وفى حق التوحيد بقدر طاقته البشرية، لأنه أثبت الآنية (الزمان) ونفى الأينية (المكان) والكيفية (الشكل)، وعلاه عن كل فكر وروية، (المنطق الصوري).
وهكذا فإن أبا حيان التوحيدي يضع شروطاً للتصوير تلتزم بمعنى التوحيد الذي ينفي الصفات البشرية عن الله، فيقول: >فلما جلَّ عن هذه الصفات، بالتحقيق في الاختبار، وُصِفَ بها بالاستعارة على الاضطرار، لأنه لا بد لنا من أن نذكره ونصفه، وندعوه، ونعبده، ونرجوه، ونخافه، ونعرفه<.
ولكن كيف نحقق الصورة الإلهية؟. يقول التوحيدي: >هي أبعد منا في التحصيل إلا بمعونة الله تعالى، فلا طريق إلى وصفها وتحديدها إلا على التقريب.. إلا أنها مع ذلك ترسم بأن يقال: هي التي تجلت في الوحدة وثبتت بالدوام ودامت بالوجود…<
ب.4. ولأول مرة بعد ألف عام نكتشف مع التوحيدي أسباب ظهور الرقش العربي، الهندسي والنباتي، بمنطق توحيدي، وليس بمنطق المنع الذي سار عليه المستشرقون، من أن الرقش العربي كان زخرفة تعاطاها المزوقون والرقاشون بديلاً للتصوير الممنوع، دون التمييز بين الصورة الإلهية والصورة التشبيهية التي تحدث أبو حيان عن أشكالها ومراميها، وقدم لها المبررات الكاملة بعيداً جداً عن منطق المنع، الذي لم يكن مطروحاً قضيَّةً أساساً من قضايا علم الجمال الإسلامي، كما هو الأمر اليوم، وموقفه هذا يضع حدّاًً لزيادة أوار الجدل في قضية المنع، طالما أنها ليست مسألة مبدئية إلا من حيث هي أمر لمنع تصوير الله أو لمضاهاته في عملية التصوير والخلق.
وهكذا، فإن الرقش العربي هو تصوير ديني إسلامي يقوم على مبدإ التوحيد، أما التصوير التشبيهي، فهو تصوير مدني يقوم على وظائف ثقافية لا يضع الشرع دونها مانعاً ما. فالتصوير التشبيهي مباح عندما يكون الغرض منه تذكير الحواس بأشياء سبق أن أدركتها، أو لتصوير أشياء وكائنات موهومة ليس لها ظل في الواقع أوالذهن، أو لتصوير الأمور العقلانية المحض، كي تصبح مألوفة واضحة.
والله كما في القرآن الكريم: {هو الأولُ والآخِرُ والظاهرُ والباطنُ}،(سورة الحديد، الآية : 3 ). ولهذا يقول التوحيدي، إن اللَّه تعالى لما كان محجباً عن الأبصار، ظهرت آثاره في صفحات العالم وأجزائه وحواشيه وأثنائه.
ب.3. ويتفق أبو حيان مع بعض مفسري الحديث الشريف، من أن المنع قاصر على تصوير اللَّه، فيقول تأسيساً على معنى الوحدانية والإيمان بها، إن تصوير اللَّه يتم بعيداً عن المكان والكيف قريباًً من الدهر والزمان. أما من أشار إلى الذات فقط بعقله البريء السليم، من غير تورية باسم ولا تحلية برسم مخلصاً مقدساً، فقد وفى حق التوحيد بقدر طاقته البشرية، لأنه أثبت الآنية (الزمان) ونفى الأينية (المكان) والكيفية (الشكل)، وعلاه عن كل فكر وروية، (المنطق الصوري).
وهكذا فإن أبا حيان التوحيدي يضع شروطاً للتصوير تلتزم بمعنى التوحيد الذي ينفي الصفات البشرية عن الله، فيقول: >فلما جلَّ عن هذه الصفات، بالتحقيق في الاختبار، وُصِفَ بها بالاستعارة على الاضطرار، لأنه لا بد لنا من أن نذكره ونصفه، وندعوه، ونعبده، ونرجوه، ونخافه، ونعرفه<.
ولكن كيف نحقق الصورة الإلهية؟. يقول التوحيدي: >هي أبعد منا في التحصيل إلا بمعونة الله تعالى، فلا طريق إلى وصفها وتحديدها إلا على التقريب.. إلا أنها مع ذلك ترسم بأن يقال: هي التي تجلت في الوحدة وثبتت بالدوام ودامت بالوجود…<
ب.4. ولأول مرة بعد ألف عام نكتشف مع التوحيدي أسباب ظهور الرقش العربي، الهندسي والنباتي، بمنطق توحيدي، وليس بمنطق المنع الذي سار عليه المستشرقون، من أن الرقش العربي كان زخرفة تعاطاها المزوقون والرقاشون بديلاً للتصوير الممنوع، دون التمييز بين الصورة الإلهية والصورة التشبيهية التي تحدث أبو حيان عن أشكالها ومراميها، وقدم لها المبررات الكاملة بعيداً جداً عن منطق المنع، الذي لم يكن مطروحاً قضيَّةً أساساً من قضايا علم الجمال الإسلامي، كما هو الأمر اليوم، وموقفه هذا يضع حدّاًً لزيادة أوار الجدل في قضية المنع، طالما أنها ليست مسألة مبدئية إلا من حيث هي أمر لمنع تصوير الله أو لمضاهاته في عملية التصوير والخلق.
وهكذا، فإن الرقش العربي هو تصوير ديني إسلامي يقوم على مبدإ التوحيد، أما التصوير التشبيهي، فهو تصوير مدني يقوم على وظائف ثقافية لا يضع الشرع دونها مانعاً ما. فالتصوير التشبيهي مباح عندما يكون الغرض منه تذكير الحواس بأشياء سبق أن أدركتها، أو لتصوير أشياء وكائنات موهومة ليس لها ظل في الواقع أوالذهن، أو لتصوير الأمور العقلانية المحض، كي تصبح مألوفة واضحة.
ج) البحث عن التقوى والإبداع في الفن
ج.1. قام الفن الاسلامي على أساس مثالي، يتجلى ذلك في العمارة الدينية المتسامية الممثلة في المئذنة الشاخصة إلى الملإ الأعلى، والقبة التي تمثل العناية الإلهية، وهدف الفنان المسلم التقرب من المطلق، وفي ذلك معنى التقوى والعبادة، وهذا ما يفسر الرقش العربي الهندسي والنباتي، حيث النبات تعبير عن الجنة، ممثلة بالنخل والرمان والتين والأعشاب والسنابل والزهور،{ودانيةً عليهم ظلالُها وذُللت قطوفُها تذليلاً}، (سورة الإنسان، الآية: 14).
ويستطيع الفنان تصوير الوجوه حاذفاً التفاصيل، مما يسمى (الطرح) مؤكداً “عجز الإنسان عن خلق الإنسان من ماءٍ مهين، وعن نفخ الروح في الصورة، فليس هدف الفنان الخلق، بل الإبداع عن طريق الانتماء إلى اللَّه، وليس عن طريق تصوير اللَّه وتشبيهه: >إن أشد الناس عذاباً، يوم القيامة المصورون الذين يشبهون بخلق الله<، الحديث الشريف.
ج.2. ولذلك، فإن المصور المسلم يبتعد عن التشبيه فيحور الصورة ما استطاع، حتى يصل بها إلى الشكل السَّديمي، أي المرحلة الأولى من الخلق حسب الآية الكريمة: {ذلك عالمُ الغيبِ والشَّهادةِ العزيزُ الرحيم* الذي أحسنَ كلَّ شئ خلَقهُ وبدأ خلقَ الإنسانِ من طين *ثم جعلَ نسله ُمن سلالةٍ من ماءٍ مهين* ثم سوَّاه ونفخ فيهِ من روحِهِ}، (سورة السجدة، الآيات: 8-5).
ولقد وصلت هذه السَّديمية إلى رمزية شديدة تمثلت في الرقش العربي الذي فهم خطأ على أنه مجرد تزويق وزخرفة حسب مفهوم الفن الغربي، بل فسرها بعض المسلمين على أنها نتيجة منع التشبيه حسب الحديث الشريف، >يعذب المصورون يوم القيامة، يُقال لهم أحيوا ما خلقتم< مما دفع (باباً دوبولو) إلى القول : بأن التصوير في الإسلام >حرام أو خطيئة<.
ج.3. والواقع إن التصوير ليس حراماً، إلا عندما ينزلق المصور إلى الكفر، وهو يحاول تشبيه الصور مضاهياً الخالق بمقدرته على الخلق، و{الله هو الخالقُ البارىء المصوُّر}، ( سورة الحشر، الآية: 24 ).أو عندما يشبه في صوره رسم اللَّه تعالى، وفي ذلك كفر لأن اللَّه لا شبيه له، {ليس كمثلهِ شي، وهو السميعُ البصيرُ}، (سورة الشورى، الآية:11).
ج.4. لقد كان التصوير التشبيهي معروفاًَ في جميع العهود الإسلامية، بدءاً من العهد الأُموي ؛ حيث نرى حتى اليوم آثار الخلفاء في قصورهم البوادي، مثل قصر عَمْره الذي يحفل بصور الملوك وصور الجواري وأصحاب المهن إضافة إلى الحيوانات والطيور. وفي قصر الحَيْر الغربي نحتٌ لعله يمثل الخليفة هشام، ورسوم ضخمة أحدها يمثل امرأة على شكل (جيتا) التي تمثل الأرض، والثاني يمثل فارساً مطارداً، ولقد نقلت رسوم هذا القصر إلى المُتحف الوطني بدمشق.
أما قصر المفجر، فلقد حفل بروائع الرسوم والمنحوتات التشبيهية التي نقلت إلى مُتحف القدس. وفي العصر العباسي عثر في (سامراء) على العديد من الرسوم الجدارية في قصور المتوكل. وفي المتاحف الإسلامية، بقايا رسوم تشبيهية تعود إلى العهود الفاطمية والمملوكية. أما في العهد العثماني، فلقد تحدث الرحالة أوليا چلبي(ت 1668). عن مصورين في استانبول كانوا يبرعون بالتصوير التشبيهي، وما زالت المنمنمات التركية شاهداً على انتشار هذا الفن في المجتمع السني كما في المجتمع الشيعي، في فارس.
ج.5. وبصورة عامة فلقد أورد الشعراء والمفكرون، وصفاً لأعمال فنية تشبيهية، تؤكد انتشار هذه الفنون في العالم الإسلامي. ففي قصيدة أبي الطيب المتنبي التي يصف فيها انتصار سيف الدولة في قلعة (برزويه) البيزنطية، تصوير رائع يجعل من هذه القصيدة لوحة ملونة تزينها صورة خيمة نصبت عند استقبال سيف الدولة عام 946م، وهي من صنع المسلمين ولا شك، لأن خيمة مماثلة في مصر صنعت لوزير الخليفة المستظهر بالله (1033-1094). ويروي المقريزي، (مج 2، ص 419)، أنها من صنع مئة وخمسين عاملاً لمدة تسع سنوات، وكلفت الوزير اليازوري ثلاثين ألف قطعة ذهبية، وكان الوزير مفتوناً بالفن. ويتحدث المقريزي عن اهتمام هذا الوزير بالفن والتصاوير، ويذكر مصورين هما ابن عزيز والقصير تنازعا على تقديم أفضل الصور التشبيهية. ويقول المقريزي:> لقد سبق لي أن عرضت للموضوع تقييماً مفصلاً في كتاب صرفت فيه القول في هذا الأمر، وأعنى به طبقات المصورين<. وفي فصل من هذا الكتاب، وكان عنوانه: >ضوء المصباح والمستمتع بصحبته<، عرض المقريزي فيه سجلات المصورين المعروفين حتى زمانه. وشرحاً لآيات التصوير التي كانت لدى الخليفة الفاطمي، أو في بيوتات الوزراء والأمراء. ولكن هذا الكتاب مفقود لم يصلنا مع الأسف.
ولقد أورد المقريزي عن رواية اليازوري وزير الخليفة الفاطمي المستظهر، فقد أراد أن يستثير المصورَيْن القصير وابن عزيز الذي استقدمه من العراق ليتبارى مع القصير؛ الذي كان يشتط في طلب الأجور العالية في مصر، ويقول عن القصير: >والحق يقال كان جديراً<، بمثل هذا التقدير العالي، فقد كان في الرسم في عظمة ابن مقلة في فن الخط، في حين كان ابن عزيز على شاكلة الخطاط وابن البواب، ومن طبقته. وها هو اليازوري الآن، وقد أدخل القصير وابن عزيز إلى قصره، ونسمع ابن عزيز يقول : “لسوف أرسم لوحة على نحو سوف يَخَالُ معه الناظر اليها أنها تطلع عليه من قلب الحائط”، وتصدى له القصير قائلاً، أما أنا فلسوف أرسمها على نحو سَيُخَيَّلُ معه الناظر اليها أنها تنخرط في الحائط وتتداخل فيه، وإذ ذاك أمرهما اليازوري بعمل ما تعهدا به، فقام كل منهما بوضع تصميم للوحة تمثل فتاة راقصة. فبدت في إحدى اللوحتين وكأنها تشق طريقها في الحائط دخولاً، أما في الأخرى وكأنها تشق طريقها في الحائط خروجاً.
ج.6. وهذا يدل على أن الفنان المسلم كان بإمكانه أن يصور تصويراً واقعياً دقيقاً، ولكنه وبصورة عامة يبتعد عن احترام قوانين المنظور الرياضي، لأنها ليست من تقاليده، ولأن المنظور في الدين والفن هو منظور روحي، إذ تقوم رؤية المصور لموضوعه على أساس أنه موجود بقوة اللَّه تعالى، وذلك فإن الأشعة البصرية ليست نسبية مخروطية، بل هي مطلقة متوازية صادرة عن الكون كله. وهكذا تبدو الصور مسطحة دونما بعد ثالث أو عمق، وهذا المبدأ مستمد من القرآن الكريم، {وإن ْمن شيءٍ إلا يسبحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماًً غفوراًً }، (سورة الإسراء: الآية: 44). وفي آية أخرى، {ولله المشرقُ والمغرب فأينما تولوا فثم وجهُ اللَّهِ }، (سورة البقرة، الآية: 115).
ج.7. في فنون العمارة الإسلامية مواصفات حضارية دينية تبدو واضحة في عمران المدن الإسلامية، حيث يحدد المشهد البصري للمدينة الإسلامية خصائص دينية روحية، تتجلى أولاً في هيمنة المسجد الجامع الذي يقع في مركز المدينة، وتتحلق الأبنية حوله، فهو المركز الذي يشع المعاني السامية والقيم والثقافة، متمثلة بدور القرآن والحديث وبالمدارس والزوايا والبيمارستانات والمكتبات وحوانيت العطارين، كما تقوم في أطراف المدينة الأسوار المنيعة، وثمة قلعة لحماية السلطة وحولها أسواق الخيل وأسواق السُّرَيجيَّة والعلف.
وتكتمل عناصر المدينة الإسلامية عندما تتشكل الأحياء، وبينها الأزقة والحارات التي تؤلف شرايين المدينة، حيث يتواصل الناس، وهم في مأمن من عوارض الطبيعة، الشمس والمطر والعواصف، بل هم في غاية الارتياح عندما يمرون بهذه الطرقات الملتوية الضيقة أو العريضة، تفاجئهم وراء كل منعطف، مشاهد البيوت وتجمعات السكان، ويصلون إلى بيوتهم أو أسواقهم وأعمالهم دونما عناء ودون وسائط نقل.
وتحدد هذه الطرقات حدود الأحياء مقر العشائر أو الأسر أو أصحاب المهن المشتركة، وهكذا تتكون المدينة الإسلامية من مجموعات إثنية تحقق تضامناً اجتماعياً، يقوم على روابط متينة، إضافة إلى الروابط الدينية التي تتجلى باجتماعهم المستمر في الصلاة الجامعة أو أيام الجمع والأعياد وشهر رمضان.
ج.8. وعلى الرغم من اتساع أرض الإسلام، فإن الوحدة الحضرية ما زالت الحقيقة الأساس التي تغنيها العقيدة الإسلامية التوحيدية، يتمثل ذلك في اتجاه عمارات المدينة نحو القبلة؛ أو نحو الجنوب بحسب موقعها الجَغْرافي في مشرق العالم الاسلامي أو مغربه، وفي عدم ارتفاع البيوت عن مستوى المسجد بمآذنه وقبابه، فهي من طابقين لايعلو منزل على آخر لكي لا يقتحم الجيران حرمة بعضهم. وتبدو واجهات البيوت متقشفة اعترافاً بفضيلة التواضع: {ولاَتمْش في الأرضِ مَرَحاً}، على عكس داخل البيوت، {ودانيةً عليهم ظلالُها وذُللت قطوفُها تذليلاً}. (سورة الإنسان، الآية: 14). وتبقى رئة المدينة من الحدائق موزعة داخل البيوت في الأقنية، وقد عكست أحلام سكان المنزل بالفردوس الموعود للصالحين. فالفناء الداخلي، بأشجاره المثمرة ورياحينه وفسيفسائه ونوافيره، يبقى حقيقة فردوسية لانرى لها نظيراً في غير العمارة الإسلامية، فالمقياس الإنساني الذي قامت المدينة؛ والمسكن على أساسه، فرض شروط الثوابت البيئية: (المُناخ والتلوث) والمعيشية: (الراحة والأمن) والدينية :(الثقافة والأخلاق)، لتكون المدينة وعاء”إنسانياً إسلامياً، وغلافاً حضارياً يحدد ملامح الهوية الإسلامية؛ التي حددت سِمَة عمران المدن الإسلامية.
ولقد وصلت هذه السَّديمية إلى رمزية شديدة تمثلت في الرقش العربي الذي فهم خطأ على أنه مجرد تزويق وزخرفة حسب مفهوم الفن الغربي، بل فسرها بعض المسلمين على أنها نتيجة منع التشبيه حسب الحديث الشريف، >يعذب المصورون يوم القيامة، يُقال لهم أحيوا ما خلقتم< مما دفع (باباً دوبولو) إلى القول : بأن التصوير في الإسلام >حرام أو خطيئة<.
ج.3. والواقع إن التصوير ليس حراماً، إلا عندما ينزلق المصور إلى الكفر، وهو يحاول تشبيه الصور مضاهياً الخالق بمقدرته على الخلق، و{الله هو الخالقُ البارىء المصوُّر}، ( سورة الحشر، الآية: 24 ).أو عندما يشبه في صوره رسم اللَّه تعالى، وفي ذلك كفر لأن اللَّه لا شبيه له، {ليس كمثلهِ شي، وهو السميعُ البصيرُ}، (سورة الشورى، الآية:11).
ج.4. لقد كان التصوير التشبيهي معروفاًَ في جميع العهود الإسلامية، بدءاً من العهد الأُموي ؛ حيث نرى حتى اليوم آثار الخلفاء في قصورهم البوادي، مثل قصر عَمْره الذي يحفل بصور الملوك وصور الجواري وأصحاب المهن إضافة إلى الحيوانات والطيور. وفي قصر الحَيْر الغربي نحتٌ لعله يمثل الخليفة هشام، ورسوم ضخمة أحدها يمثل امرأة على شكل (جيتا) التي تمثل الأرض، والثاني يمثل فارساً مطارداً، ولقد نقلت رسوم هذا القصر إلى المُتحف الوطني بدمشق.
أما قصر المفجر، فلقد حفل بروائع الرسوم والمنحوتات التشبيهية التي نقلت إلى مُتحف القدس. وفي العصر العباسي عثر في (سامراء) على العديد من الرسوم الجدارية في قصور المتوكل. وفي المتاحف الإسلامية، بقايا رسوم تشبيهية تعود إلى العهود الفاطمية والمملوكية. أما في العهد العثماني، فلقد تحدث الرحالة أوليا چلبي(ت 1668). عن مصورين في استانبول كانوا يبرعون بالتصوير التشبيهي، وما زالت المنمنمات التركية شاهداً على انتشار هذا الفن في المجتمع السني كما في المجتمع الشيعي، في فارس.
ج.5. وبصورة عامة فلقد أورد الشعراء والمفكرون، وصفاً لأعمال فنية تشبيهية، تؤكد انتشار هذه الفنون في العالم الإسلامي. ففي قصيدة أبي الطيب المتنبي التي يصف فيها انتصار سيف الدولة في قلعة (برزويه) البيزنطية، تصوير رائع يجعل من هذه القصيدة لوحة ملونة تزينها صورة خيمة نصبت عند استقبال سيف الدولة عام 946م، وهي من صنع المسلمين ولا شك، لأن خيمة مماثلة في مصر صنعت لوزير الخليفة المستظهر بالله (1033-1094). ويروي المقريزي، (مج 2، ص 419)، أنها من صنع مئة وخمسين عاملاً لمدة تسع سنوات، وكلفت الوزير اليازوري ثلاثين ألف قطعة ذهبية، وكان الوزير مفتوناً بالفن. ويتحدث المقريزي عن اهتمام هذا الوزير بالفن والتصاوير، ويذكر مصورين هما ابن عزيز والقصير تنازعا على تقديم أفضل الصور التشبيهية. ويقول المقريزي:> لقد سبق لي أن عرضت للموضوع تقييماً مفصلاً في كتاب صرفت فيه القول في هذا الأمر، وأعنى به طبقات المصورين<. وفي فصل من هذا الكتاب، وكان عنوانه: >ضوء المصباح والمستمتع بصحبته<، عرض المقريزي فيه سجلات المصورين المعروفين حتى زمانه. وشرحاً لآيات التصوير التي كانت لدى الخليفة الفاطمي، أو في بيوتات الوزراء والأمراء. ولكن هذا الكتاب مفقود لم يصلنا مع الأسف.
ولقد أورد المقريزي عن رواية اليازوري وزير الخليفة الفاطمي المستظهر، فقد أراد أن يستثير المصورَيْن القصير وابن عزيز الذي استقدمه من العراق ليتبارى مع القصير؛ الذي كان يشتط في طلب الأجور العالية في مصر، ويقول عن القصير: >والحق يقال كان جديراً<، بمثل هذا التقدير العالي، فقد كان في الرسم في عظمة ابن مقلة في فن الخط، في حين كان ابن عزيز على شاكلة الخطاط وابن البواب، ومن طبقته. وها هو اليازوري الآن، وقد أدخل القصير وابن عزيز إلى قصره، ونسمع ابن عزيز يقول : “لسوف أرسم لوحة على نحو سوف يَخَالُ معه الناظر اليها أنها تطلع عليه من قلب الحائط”، وتصدى له القصير قائلاً، أما أنا فلسوف أرسمها على نحو سَيُخَيَّلُ معه الناظر اليها أنها تنخرط في الحائط وتتداخل فيه، وإذ ذاك أمرهما اليازوري بعمل ما تعهدا به، فقام كل منهما بوضع تصميم للوحة تمثل فتاة راقصة. فبدت في إحدى اللوحتين وكأنها تشق طريقها في الحائط دخولاً، أما في الأخرى وكأنها تشق طريقها في الحائط خروجاً.
ج.6. وهذا يدل على أن الفنان المسلم كان بإمكانه أن يصور تصويراً واقعياً دقيقاً، ولكنه وبصورة عامة يبتعد عن احترام قوانين المنظور الرياضي، لأنها ليست من تقاليده، ولأن المنظور في الدين والفن هو منظور روحي، إذ تقوم رؤية المصور لموضوعه على أساس أنه موجود بقوة اللَّه تعالى، وذلك فإن الأشعة البصرية ليست نسبية مخروطية، بل هي مطلقة متوازية صادرة عن الكون كله. وهكذا تبدو الصور مسطحة دونما بعد ثالث أو عمق، وهذا المبدأ مستمد من القرآن الكريم، {وإن ْمن شيءٍ إلا يسبحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماًً غفوراًً }، (سورة الإسراء: الآية: 44). وفي آية أخرى، {ولله المشرقُ والمغرب فأينما تولوا فثم وجهُ اللَّهِ }، (سورة البقرة، الآية: 115).
ج.7. في فنون العمارة الإسلامية مواصفات حضارية دينية تبدو واضحة في عمران المدن الإسلامية، حيث يحدد المشهد البصري للمدينة الإسلامية خصائص دينية روحية، تتجلى أولاً في هيمنة المسجد الجامع الذي يقع في مركز المدينة، وتتحلق الأبنية حوله، فهو المركز الذي يشع المعاني السامية والقيم والثقافة، متمثلة بدور القرآن والحديث وبالمدارس والزوايا والبيمارستانات والمكتبات وحوانيت العطارين، كما تقوم في أطراف المدينة الأسوار المنيعة، وثمة قلعة لحماية السلطة وحولها أسواق الخيل وأسواق السُّرَيجيَّة والعلف.
وتكتمل عناصر المدينة الإسلامية عندما تتشكل الأحياء، وبينها الأزقة والحارات التي تؤلف شرايين المدينة، حيث يتواصل الناس، وهم في مأمن من عوارض الطبيعة، الشمس والمطر والعواصف، بل هم في غاية الارتياح عندما يمرون بهذه الطرقات الملتوية الضيقة أو العريضة، تفاجئهم وراء كل منعطف، مشاهد البيوت وتجمعات السكان، ويصلون إلى بيوتهم أو أسواقهم وأعمالهم دونما عناء ودون وسائط نقل.
وتحدد هذه الطرقات حدود الأحياء مقر العشائر أو الأسر أو أصحاب المهن المشتركة، وهكذا تتكون المدينة الإسلامية من مجموعات إثنية تحقق تضامناً اجتماعياً، يقوم على روابط متينة، إضافة إلى الروابط الدينية التي تتجلى باجتماعهم المستمر في الصلاة الجامعة أو أيام الجمع والأعياد وشهر رمضان.
ج.8. وعلى الرغم من اتساع أرض الإسلام، فإن الوحدة الحضرية ما زالت الحقيقة الأساس التي تغنيها العقيدة الإسلامية التوحيدية، يتمثل ذلك في اتجاه عمارات المدينة نحو القبلة؛ أو نحو الجنوب بحسب موقعها الجَغْرافي في مشرق العالم الاسلامي أو مغربه، وفي عدم ارتفاع البيوت عن مستوى المسجد بمآذنه وقبابه، فهي من طابقين لايعلو منزل على آخر لكي لا يقتحم الجيران حرمة بعضهم. وتبدو واجهات البيوت متقشفة اعترافاً بفضيلة التواضع: {ولاَتمْش في الأرضِ مَرَحاً}، على عكس داخل البيوت، {ودانيةً عليهم ظلالُها وذُللت قطوفُها تذليلاً}. (سورة الإنسان، الآية: 14). وتبقى رئة المدينة من الحدائق موزعة داخل البيوت في الأقنية، وقد عكست أحلام سكان المنزل بالفردوس الموعود للصالحين. فالفناء الداخلي، بأشجاره المثمرة ورياحينه وفسيفسائه ونوافيره، يبقى حقيقة فردوسية لانرى لها نظيراً في غير العمارة الإسلامية، فالمقياس الإنساني الذي قامت المدينة؛ والمسكن على أساسه، فرض شروط الثوابت البيئية: (المُناخ والتلوث) والمعيشية: (الراحة والأمن) والدينية :(الثقافة والأخلاق)، لتكون المدينة وعاء”إنسانياً إسلامياً، وغلافاً حضارياً يحدد ملامح الهوية الإسلامية؛ التي حددت سِمَة عمران المدن الإسلامية.
د) منطلقات إسلامية في تأسيس العمارة
د.1. استمد المعمار المسلم من الشريعة الإسلامية منطلقات لتأسيس عمارته، كان أولها المقياس الإنساني الذي يجب أن يتوفر في العمارة. واللَّه كرم الإنسان في قوله: {ولقد كرمنا بني آدم}. (سورة الإسراء، الآية :70). وفي آية أخرى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}. (سورة التين، الآية: 3)، وهكذا كان الإنسان هو البناء الأول الذي خلقه الله كاملاً في أحسن تقويم ومقياساً للكمال في الأعمال البشرية، وإذا لم تقرر الشريعة الإسلامية نظاماً وأسلوباً لعمارة المساجد والبيوت، إلا أنها حضت الإنسان على العمل والعلم والإبداع، كي يكون إنتاجه سوياًً ثابتاً. وفي القرآن الكريم، {وقل اعملوا فسيرى اللَّه عملكم ورسوله والمؤمنون}، (سورة التوبة، الآية:105)، وفي ذلك حض على العمل المسؤول النافع، والقائم على العلم الذي لاحد له، {وقل ربِّ زدني علماً} .(سورة طه، الآية: 114). ولقد كرم اللَّه العلماء ورفع من مكانتهم في المجتمع الإسلامي: {يرفعِ اللهُ الذين آمنو منكم والذين أوتوا العلم درجاتٍ} (سورة المجادلة، الآية:11).
وفي مجال العمارة أكّد اللَّه في كتابه ضرورة اختيار الأرض: {اللَّه الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناءً} (سورة غافر، الآية: 64)، ولقد اقتدى المعمار بأوامر اللَّه في تحقيق متانة ورسوخ عمارته، {أفمن أسس بنيانه على تقوى من اللَّه خيرُ أمَّن أسَّس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به}. (سورة التوبة، الآية: 109). فلقد جعل رسوخ عمارة الإنسان تقوى من اللَّه ورضواناً، ويقول الشاعر في شروط البناء المدعم القوي:
والبيت لا يبنى إلا له عمدُ *** ولا عمادَ إذا لم ترس أوتادا
وليس من بناء بدون عمد إلا السماء التي رفعها اللَّه بغير عمد: {اللَّه الذي رفع السمواتِ والأرض َبغيرِ عمدٍ تَروْنها} (سورة الرعد، الآية: 2). والقصد أن تكون العمارة أمينة على أصحابها،{وكانوا ينحتون من الجبالِ بيوتاً آمنيَن} (سورة الحِجْر، الآىة:82).
ويضرب القرآن مثلاً في مدينة ذات أعمدة راسخة هي دمشق القديمة، {إرََمَ ذاتِ العماد التي لم يُخلَق مثلُها في البلادِ}. (سورة الفجر، الآية: 6).
وكثيراً ما شدد القرآن الكريم والحديث الشريف على التواضع، وعدم التكلف في الحياة، {ولا تَمْشِ في الأرضِ مَرَحاً إن اللَّه لايحبُ كلَّ مختال ٍفخورٍ}. (سورة لقمان، الآية: 18)، فلقد كان على المعمار ألا يفسح المَجال في عمارته إلى التشوف والتباهي خشية إثارة مشاعر الآخرين، فلم يُعْنَ بظاهر عمارته، بل اقتصر على تزيين داخل هذه العمارة.
إن مبدأ الوسطية الذي أشار إليه القرآن الكريم، والذي جعله خصيصة الأمة الإسلامية، قد دفع المعمار لتحقيق التوازن في عمارته، ولتحقيق الكفاية من وظائف السكن دون إفراط ولا تفريط، ولتحقيق الأنموذجية والمثالية في العمل المعماري، لكي يكون قدوة بين الناس.
{وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيداً}، (سورة البقرة، الآية: 143). وحذر القرآن من المبالغة، {فأما الزَّبدَ فيذهبُ جُفاء وأما ما ينفعُ الناس فيمكثُ في الأرضِ}، (سورة الرعد، الآية:19). والعمارة فن كما هي علم، فإذا حض القرآن الكريم على إقامة العمارة على العلم لتكون راسخة قوية، كذلك حض على الفن، {قل من حرّم زينة اللَّه التي آخرج لعباده والطيباتِ من الرزق}.(سورة الأعراف، الآية: 32). {ولا تنسى نصيبَك من الدُّنيا}. (سورة القصص، الآية:77). {إنا جعلنا ما على الأرض زينةً لها}. (سورة الكهف، الآية:7). وتتضمن الزينة المعمارية دراسة التوازن الفني، {وأنبتنا فيها من كلِّ شيءٍ موزون}، (سورة الحِجْر، الآية: 18). والاعتناء بالماء والنبات في داخل المساكن لتعم فيها البهجة، {وأنزلنا لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائقَ ذات ِبهجةٍٍ}، (سورة النمل، الآية:60). وأمر القرآن بمراعاة ضوء الشمس ودفئها والظل، {وسخَّر لكمُ الشمسَ والقمرَ}، {وظلّلنا عليكمُ الغمامَ}. (سورة البقرة، الآية: 57)، {واللهُ جعلَ لكم مما خلق ظلالاً}.(سورة النحل: الآية:81).
د.2. وتبقى الزخارف الكتابية آية متميزة، فاللَّه كرم القلم والكتابة، {ن والقلم وما يسسطرون}. (سورة القلم، الآية :1). وكان الخط الجميل تعظيماً واحتراماً للكتابات القرآنية التي لم يخلُ منها مسجد أو بيت.
د.3. لقد وضعت الشريعة الإسلامية القواعد لضمان حقوق أصحاب البيوت أو الجوار، كان أولها وضع أحكام تختلف باختلاف الحالات. {ولاتَزِرُ وازرةٌ وِزْر أخرى}.(سورة الأنعام، الآية: 164). وفي الجملة كانت أكثر القواعد الكلية مرهونة لضمان المعماريين والساكنين والجوار، كما في الحديـــث الشريــف : >لاضرر ولا ضرار<، ـ والضرر يزال ـ ولا ينسب لساكت قول ـ والحق قديم… .
وهكذا تتجلى في العمارة الإسلامية وفنونها المواصفات الحضارية التي سنها القرآن الكريم، وفرضتها القيم السامية التي أمر بها الدين الحنيف.
هـ) البحث عن علم الجمال الإسلامي
هـ.1. لقد قدم الفكر الإسلامي جميع منطلقات الفنون الإسلامية من عمارة وتصوير ورقش، وكان لابد من تكوين فكر فني إسلامي، أو ما يسمى بعلم الجمال الإسلامي، كان قد أسهم في وضع أسسه كبار المفكرين المسلمين.
إن العودة إلى ما كتبه الفارابي والأصفهاني والجاحظ والتوحيدي؛ تقدم لنا مادة غنية لبناء مقدمة لعلم جمال ذي جذور بعيدة في الفكر الإسلامي. ولقد اخترنا أبا حيان التوحيدي، لأنه واحد من أعظم النقاد في تاريخ الأدب العربي(2). والنقد يحتاج قواعد ومنطلقات تحدد سمت الرؤية الفنية، ولقد عرض أبو حيان ماذا يعني الإبداع، ووضع مقاييسه على أساس هذا المعنى، فإذا تعرفنا على مظاهر أدبه عرفنا نموذجاً فذاً للكمال الإبداعي، وإذا اعتمدنا مقاييسه في قراءة أدبه أو أدب غيره من معاصريه، عرفنا أن آلية الإبداع لا تختلف عن آلية التذوق، وأن العمل لايستقيم إلا إذا كان منتمياً إلى الأسس النظرية للإبداع الفني، بحسب مفهوم الفن الخاص بكل حضارة من الحضارات.
هـ.2. لقد ازدهرت الحضارة الإسلامية عَبْرَ التاريخ، وكانت الأواصر بين جميع مظاهرها قوية متماسكة. ولم تكن وحدة هذه الحضارة ظاهرية شكلية، بل كانت جوهرية عميقة الجذور، اشترك في بنائها الدين والمثل والتاريخ.
ومن المؤسف أننا لم نبحث كثيراً في هذه الجذور، وما تم من تحقيق وبحث للتراث تم حسب دراسة أكاديمية متجردة. ولكن لا بد من دراسة التراث بمنطق العصر، لكي يصبح ثقافة دارجة، يمكن تداولها في الحاضر والمستقبل.
إن البحث عن الجذور يعني البحث عن الهُوية الثقافية، ولايمكن أن يدخل هذا تحت عنوان العنصرية أو الشوفينية، إلا إذا كان مفهومنا القومي قبلياً، وليس حضارياً. إن القومية هي رابطة حضارية، وإن الانتماء القومي هو انتماء حضاري.
ولقد قمنا بمحاولة للكشف عن معالم الفكر الفني من خلال مفكر عربي استطاع أن يقدم دونما عنوان فلسفة للفن، شأنه في ذلك شأن المفكرين الذين تحدثوا في علم الجمال من خلال الميتافيزياء. ولقد أردنا أن نقتطف فِقْرات في فلسفة الفن من خلال ما أبدعه من مقايسات أو مناظرات أو مؤانسات، وهي نصوص أدبية لها قيمتها الفنية بذاتها، ولقد درست على أنها مجرد نصوص رائعة، وأنها تضمنت مواقف وأفكار وروايات، ولم يفطن دارسو أبي حيان إلى فكرة الجمال (الاستطيقا)، وهو إهمال يشمل غيره من المفكرين العرب والمسلمين، ممن تحدث في فلسفة الفن، وكان له رأي في الإبداع والتذوق والعبقرية والتقنيات الفنية.
إن ما قدمه التوحيدي، هو مثال على الفكر الجمالي المبثوث في التراث العربي الإسلامي، وهي فلسفة متكاملة استوعبت الفنون الإسلامية من شعر وموسيقى وخط. وسنرى أن ما قدمه علم الجمال في الغرب كان قد قاله أبو حيان وغيره من المفكرين، ولكن بأسلوب آخر.
وهكذا تقوم فلسفة الفن عند أبي حيان على أنها الفلسفة التي تقابل، إلى حد بعيد، علم الجمال الغربي بجميع مسائله ومواقفه(3).
المراجع:
(1) جمعنا في كتابنا الفكر الجمالي عند التوحيدي، خلاصة ما أورده في كتبه، مما يتعلق بالجمالية الإسلامية، الكتاب طبع المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997.
(2) انظر كتابنا : الفكر الجمالي عند التوحيدي، الذي أشرنا إليه من قبل.
(3) الفكر الجمالي عند التوحيدي المشار إليه من قبلُ.
Tags:
News